شراكة القرن- السعودية وأمريكا.. من النفط إلى آفاق جديدة

المؤلف: محمد الساعد09.16.2025
شراكة القرن- السعودية وأمريكا.. من النفط إلى آفاق جديدة

في الرابع من صفر عام 1352 هجري، الموافق 29 مايو 1933 ميلادي، خطا الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود خطوة فارقة بتوقيعه اتفاقية امتياز التنقيب عن النفط مع شركة "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا". لم يكن هذا الاتفاق مجرد عقد تجاري بين دولة وشركة نفطية، بل كان بمثابة إعلان عن فجر جديد، عصر مزدهر سياسياً واقتصادياً، ليس فقط في أرجاء المملكة العربية السعودية، بل في العالم أجمع. وبحلول عام 2035، أي بعد عقد من الزمان من يومنا هذا، سنكون قد احتفلنا بمرور قرن كامل على تدفق أولى قطرات النفط الثمينة من باطن الصحراء السعودية الشاسعة إلى العالم. لكن الرواية السعودية الأمريكية لم تقتصر على النفط فحسب، ففي عام 1945، التقى الزعيمان الأقوى في العالم آنذاك، الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز بن سعود، رمز الشجاعة والحكمة في القرن العشرين. جمع الرجلين مسار متشابه على الصعيدين الشخصي ولوطنيهما، مما أرسى دعائم علاقات راسخة ومتميزة صمدت حتى يومنا هذا. أسفر هذا اللقاء التاريخي بين الزعيمين العظيمين، الملك عبد العزيز وروزفلت، عن إبرام اتفاقية شراكة استراتيجية طويلة الأمد، أطلق عليها اسم "كوينسي"، تيمناً بالبارجة البحرية التي شهدت هذا اللقاء التاريخي الذي لا يُنسى. لقد ضمنت هذه الاتفاقية علاقات متينة ووثيقة بين المملكة العربية السعودية الوليدة والولايات المتحدة الأمريكية الحديثة أيضاً، الدولتان اللتان تأسستا في فترة زمنية متقاربة وخاضتا تجارب مماثلة. إن التقاء المصالح والأهداف بين البلدين كان له دور كبير في ترسيخ هذه العلاقة الوطيدة، بدءاً بالارتياح المتبادل بين الزعيمين الكبيرين، ومروراً بكونهما قائدين محنكين قادا دولتيهما إلى انتصارات تاريخية. فالملك عبد العزيز استطاع بفضل حنكته استعادة ملك آبائه وأجداده وهزيمة جميع أعداء وطنه، وكذلك روزفلت الذي قهر أعداء واشنطن بدءاً بألمانيا وانتهاءً باليابان. وجد هذان الكيانان الجديدان على الساحة الدولية أنهما يشتركان في الكثير من القواسم، فالمملكة العربية السعودية ظلت لقرون عديدة تعيش خلف حاجز طبيعي من الصحاري والكثبان الرملية، في حين أن أمريكا بقيت أيضاً، حتى لحظة انتصارها في معركة النورماندي، تعيش وراء المحيط الأطلسي، في شبه عزلة عن العالم. لقد كان هذا التحالف ضرورة حتمية حقق للبلدين استقراراً اقتصادياً ومنزلة سياسية مرموقة ونفوذاً عالمياً واسعاً. شراكة ناضجة قامت على الاحترام المتبادل للسيادة والخصوصية السياسية والأمنية لكلا الطرفين. بل إن الأمريكيين لطالما أشادوا بالصدق السياسي الذي يتحلى به القادة السعوديون، وهو ما عبر عنه الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي الأسبق في واشنطن ورئيس الاستخبارات السابق، بقوله: إن الأمريكيين، وخاصة الرؤساء، يكتشفون بعد دخولهم البيت الأبيض أن السعوديين يتميزون بالصدق المتناهي في تعاملهم، فهم يقولون في الخفاء ما يعلنونه في العلن، وهذا أمر لا يستسيغه إلا قادة السياسة الشجعان الذين لا يعرفون التملق أو الادعاء أو الكذب، وهي سمات أصيلة للعرب القادمين من صحراء نجد، ونادراً ما تجدها في سياسيين آخرين اعتادوا على التلون والخداع والمراوغة. واليوم، يتوجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من واشنطن إلى الرياض، عاصمة القرار الإقليمي، في أول زيارة خارجية له بعد عودته إلى البيت الأبيض، ليؤكد للعالم أجمع أن الرئيس روزفلت، الذي سبقه بتسعة عقود، عندما أراد العبور إلى العالم الجديد، مر عبر بوابة "الرياض"، وها هو دونالد ترامب يعبر أيضاً من بوابة "الدرعية" لولوج عالم القرن القادم. لا شك أن العالم يمر الآن بمرحلة تحولات سياسية عميقة وإعادة هيكلة "للمصنع الاقتصادي العالمي"، ولا ريب في أن دولة بحجم المملكة العربية السعودية، بما تملكه من ناتج قومي ضخم وأدوات اقتصادية متطورة وثقل نفطي كبير ومكانة عربية وإسلامية رفيعة، ستكون شريكاً لا غنى عنه في المئة سنة القادمة، كما كانت في المئة سنة الماضية. في عالم السياسة، لا يوجد اتفاق مطلق على جميع القضايا، وبالتأكيد شهدت العلاقات بين واشنطن والرياض بعض الخلافات في وجهات النظر والأهداف والنتائج، كما اتفقت المصالح في كثير من الأحيان، لكن طبيعة العلاقة المتينة، وخاصة بين المؤسسات العميقة في كلا البلدين، حمت هذه العلاقة وحافظت عليها وأبقتها قوية ومتينة ومثمرة. لو طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاطلاع على محاضر لقاءات القادة السعوديين ونظرائهم الأمريكيين منذ عهد الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه الملوك وصولاً إلى الملك سلمان اليوم، لوجدها متقاربة جداً، زاخرة بالاحترام المتبادل والتقدير العميق للدور الأمريكي والسعودي في المنطقة والعالم، وسيجد فيها أيضاً تجسيداً لاستقلالية القرار السعودي، إنها محددات رئيسية ضمنت للبلدين علاقات وثيقة ومستدامة على مر العقود. إن دونالد ترامب، القادم من تجربة ثرية مع السعوديين خلال ولايته الرئاسية الأولى، سيكون بلا شك أكثر إدراكاً وفهماً للمواقف السياسية السعودية، ولعل المبادرات التي اتخذها والتي سبقت وصوله إلى السلطة تدل بوضوح على تقديره للثقل السعودي في معالجة كافة الملفات والقضايا الإقليمية والدولية. فضلاً عن ذلك، تشير العديد من المصادر إلى أن الرئيس دونالد ترامب، فور وصوله إلى الرياض، سيعلن عن اعترافه بالدولة الفلسطينية، استناداً إلى مصادر دبلوماسية خليجية نقلتها صحيفة جيروزاليم الإسرائيلية. ولعلنا نتذكر جيداً أنه قبل ثماني سنوات، اعترف ترامب نفسه بالقدس عاصمة لإسرائيل! يا لها من مفارقة عجيبة! لقد أصرت الرياض طوال السنوات الماضية على أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو المفتاح السحري لحل أعقد قضايا العالم، وبذلت في سبيل ذلك جهوداً مضنية، وستكون هذه اللحظة بمثابة إنجاز سعودي تاريخي كبير تقدمه المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان إلى الشعب الفلسطيني. هذا الإنجاز يذكرنا بالعمل التاريخي العظيم الذي قامت به الدبلوماسية السعودية في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، عندما انتزع اعتراف الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للفلسطينيين، ونزع عنها تهمة الإرهاب الباطلة. إننا نقف اليوم على أعتاب الاحتفال بمئة عام من قصة العلاقة السعودية الأمريكية، قصة حافلة بالإنجازات والنجاحات التي تركت بصمات واضحة على مستقبل العالم. قوام هذه العلاقة سياسة سعودية ثابتة لا تحيد عن مبادئها الراسخة والمتوارثة منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز، الذي أرسل رسالته التاريخية الشهيرة إلى الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945، مؤسساً بذلك دستوراً للعلاقات السعودية الأمريكية يقوم على الاحترام المتبادل والشراكة المثمرة والمصالح المشتركة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة